سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة، سيماء يحتكرها المؤمنون. ولئن توهم الدنيوي جنانه في الدينار، والنساء، والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه .
ولقد منّ الله على الناس بكثير من المباح الحلال يفند الرهبانية، ولكن المؤمن له لذة كلما توجه إلى ربه، وصفاء روح، تتضاءل بجانبها لذة المباح، فيهجر الكثير منه حذر من كدر يعكر الصفاء الذي هو فيه.
حلاوة المناجاة
جرب المؤمنون ذلك قديماً، زمن العيش البسيط، فقال أحدهم:
(الذائقون حلاوة المناجاة لابد أن يجدوا صفو الأنس في الصلاة، ويتكدرون بيسير من الاسترسال في المباح).
وجربه المؤمنون اليوم، زمن المدينة المعقدة، وأنابوا صالحاً منهم يصف ما يجد كل منهم، ويقول:
أعطني سجادتي *** فهي صفائي وسـروري
وهي شوقي ودثـاري *** وهي نبـراس الطهـور
ثم دعني في صـلاتي *** في مناجـاة القديـر .
فهي صفاؤه، وسروره، وشوقه.
الصلاة وإضفائها للسرور
بل إن الصلاة في هذه الأيام لأظهر في إضفائها السرور، فبينما يطيل التعقيد على الإنسان حياته الحاضرة، فيسأم، ويمل، ويضجر، تختصرها الصلاة إلى بضع ساعات فحسب، فتعيش في اطمئنان، وراحة بال، كما يشرحه مصطفى صادق الرافعي ويقول: (يا لها من حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأة لتتصل، ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئاً أو آثماً، ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته - مهما طال - عمل بضع ساعات).
(الله أكبر!)
هو العمر طويل جداً، مخيف مظلم للجاهلي. وهو قصير، هين منير للمصلي. وحياة الجاهلي ركود مستمر. وحياة المصلي حركة، تزيد صواباً، أو تستدرك اعوجاجاً.
وإنها (الله أكبر) تنهي هذا الركود، وتؤسس الحركة. (الله أكبر!)
بين ساعات وساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها تهتف:
أيها المؤمن: إن كنت أصبت في الساعات التي مضت، فأجتهد للساعات التي تتلو. وأن كنت أخطأت فكفر، وامح ساعة بساعة ).
وأظهر حركة يولدها التكبير: حركة التمييز والفرقان، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. فإنك إن قلت: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين) استشعرت في هذه الأية هذه الأصناف الثلاثة، وتختص كل مرة لمن ظهر منهم في زمن واحد، أو بلد واحد، فتجول في بلاد الإسلام أجمع.
فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار رضي الله عنهم مثلاً لمن أنعم الله عليهم ولا الضالين.
وفي أخرى تذكر هوداً وصالحاً مثلاً ممن أنعم الله عليهم، عليهم السلام، وعاداً وثمود من الهالكين.
وفي أخرى تذكر الحسن البصري وابن سيرين وابن المسيب ممن أنعم الله عليهم، وأهل الردة، والجهم بن صفوان، والجعد بن درهم من المتخبطين.
وفي أخرى تذكر الإمام احمد بن حنبل ورهطه من المحدثين الموفقين، وبشراً المريسي وابن دؤاد من الظالمين.
وفي أخرى تذكر ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي من المصلحين، وأصحاب وحدة الوجود والفناء الموهوم والشطح والابتداع من المدلسين.
وفي أخرى تذكر الأئمة، وثباتهم أمام الطغاة المتجبرين.
وفي أخرى تذكر حركة النور، وحزب ماشومي، وضلال أتاتورك وسكارنو من الكاذبين.
رجال مدرسة الليل
ولكن تمام التذكر يكون مع الهدوء والسكون. فمن ثم كانت مدرسة الليل. وكان ترغيب الله للمؤمنين أن يجددوا سمت الذين (كانوا قليل من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون) وإذا انتصف الليل، في القرون الأولى كانت أصوات المؤذنين ترتفع تنادي:
يا رجال الليل جدوا *** رب صــوت لا يـرد
مـا يقوم الليـل إلا *** من له عـزم وجـد
وإنها حقاً لمدرسة، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يزكوا شعلة حماسهم، وينشروا النور في الأرجاء التي لفتها ظلمات الجاهلية.
إنها لتجربة يوجزها الشاعر فيقول:
نـائح والليل ساجع سـادل *** يهجع الناس ودمعي هاطل
تصطلي روحي بحزن وألم *** ورد يا قيوم أنسي في الظلم
أنا كالشمع دموعي غسـلي *** في ظلام الليل أذكي شعلي
محفل الناس بنوري يشرق *** انتشر النور ونفسي أحرق
وإن دعوة الإسلام اليوم لا تعتلي حتى يذكي دعاتها شعلهم بليل، ولا تشرق أنوارها فتبدد ظلمات جاهلية القرن العشرين ما لم تهل بـ(يا قيوم).
دقائق الليل غالية، فلا ترخصوها بالغفلة
ما نقول هذا أول مرة، وإنما هي وصية العلماء حين يخاطبون الدعاة فيقولون: (دقائق الليل غالية، فلا ترخصوها بالغفلة).
أفعيينا أن نعيد السمت الأول، أم غرنا اجتهاد في التساهل والتسيب والكسل جديد ؟ إن القول عند الله لا يبدل، ولكن أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة، فثقل المغرم، ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسراً.
إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور، بل برجعة نصوح إلى العرف
الأول، ومتى ما صفت القلوب بتوبة، ووعت هذا الكلام أذن واعية، كان الفكاك من الورطة الحاضرة التي سببتها الغفلة المتواصلة.
ذلك شرط لا بد منه. وكأن النصر حجب عنا لأننا لم نقدم بين يدي جهادنا همساً في الأسحار، ولا الدمع المدرار، وإنما النصر هبة محضة، يقر الله بها عين من يشاء من رجال مدرسة الليل في الحياة الدنيا.
أن تعلم الإخلاص، وفضح الأمل الكاذب الدنيوي أجلى أعطيات مدرسة الليل، كما يقول الشاعر، وذلك ما توجب تربيتنا تركيزه وتعميقه في النفوس. قال، والحق ما قال:
يـا ليل قيامك مدرسـة *** فيـها القرآن يدرسـني
معنى الإخلاص فالزمه *** نهـج بالجنة يــجلسني
ويبصرني كيف الدنيـا *** بالأمـل الكاذب تغمسني
مثل الحـرباء تلونها *** بالإثم تحــاول تطمسني
فأباعدها وأعــاندها *** وأراقبهــا تتهجســني
فأشد القلب بخــالقه *** والذكر الدائم يحرسني
وأكثر من هذا، فإن من تخرج في مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله، والمتخلف عنها يابس قاس تقسو قلوب الناظرين إليه، والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القدم، شاهده، وأرشدك إليه، فقال: (بحسبك أن قوما موتى تحيا القلوب بذكرهم، وإن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم.) فلم كان ذلك أن لم يكن ليل الأولين يقظة، وليل غيرهم نوماً ؟ونهار الأولين جد، ونهار الآخرين شهوة.
أتسبقك الحمامة؟
وأنه لقلب رقيق قلب الفقيه الزاهد أبي سهل الصعلوكي، يظهره تأنيبه لنفسه في قوله:
أنـام على سهو وتبكي الحمائم *** وليس لها جرم ومني الجرائم
كذبت لعمرو الله لو كنت عاقلا *** لما سبقتني بالبكاء الحمائم
فإن الذنب لا يغسل إلا بدمع، والشجاعة تسقى بدمع الليل، وما عرف تاريخ الإسلام رجاله إلا كذلك، ووصفهم ابن القيم بأنهم:
يحيــون ليلهم بطــاعة ربهم *** بتلاوة، وتضرع، وســـؤال
وعيـونهم تجري بفيض دموعهم *** مثل انهمـــال الوابل الهطال
في الليل رهبـان، وعند جهادهم *** لعـدوهم أشجــع الأبطــال
بــوجوههم أثر السجود لربـهم *** وبها أشعة نوره المتـلالي
وسأل عبد الوهاب عزام عن الليل وعن أروع أسراره، فأبان جوابه عن إصابة المؤمنين والمذنبين في تحريهم إياه، واستمع لتحاورهما:
قلت لليل: كم بصـــدرك سر *** أنبئني ما أروع الأســـرار؟
قال: ما ضاء في ظلامي سـر *** كدموع المنيب في الأسحار
فلا ترى المؤمن إلا مصدق بجواب الليل، فهو مسارع مستبق ؟
وترى أهل البلاغة في إذاعة لما قال ؟ يستحثون الناس.
* فـاز من سبح والناس هجوع *
* يدفن الرغبـة ما بين الضلوع *
* ويغشيـــه سكون وخشوع *
* سوف يغدوا ذلك الدمع شموع *
لتضئ الدرب يوم المحشر *** سجدة لله عند السـحر.
ويلقنون المؤمنين المخطئين طريق الجنة، أن:
* عد إلى الله بقلب خاشع *
* وادعه ليلاً بطرف دامع *
* يتولاك بعفــو واسـع *
ويبدل كل تلك السيئات حسنات
* كل هذا العفو للعبد المنيــب *
* سابغاً من خالق الكون الرحيب *
* للذي تاب إليه من قريـــب *