تدبر القرآن وتعقله وتأمله
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
15/9/1426
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
إن كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولاتنفد عبره، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: "إنا سمعنا قرآنا عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا"، قال الله _تعالى_: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم"، كتاب ربنا من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن خاصم به فلج، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
نورٌ على مَرِّ الزمان تألـقــا
وأضـاءَ للدنيا طريقاً مُشرقا
وهدى من الرحمن يهدينا بــه
للصالحـات وللمكارم والتقى
هذا كتـاب الله زاد قلوبـنا
وشفاؤنا مـن كل داء أرهقا
هذا هو القرآن مصـدر عزنا
فبه تبوأنا المكـان الأسـمقا
ياحافـظ القرآن لست بحافظ!
حتى تكون لما حفظت مطبقاً
ماذا يفيـدك أن تسمى حافظاً
وكتاب ربك في الفؤاد تمزقا
يا أُمَّتي القـرآن حبـلُ نجاتنا
فتمَسَّكِي بِعُرَاه كي لانغرقا
ولتجمعي حول الكتاب شتاتنا
حتى نزيل تنـاحراً و تفرقا
ولتجعليه محـكما في أمـرنا
وثقي بوعد الله أن يتحققا
ولعل سبيل الخلوص إلى تلك المعاني وعظم تأثر المرء بها منوط بتدبر القرآن، ولهذا قال الله _تعالى_: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" [النساء:82]، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد:24]، فدل هذا على أن ترك التدبر حال أقوام عن الانتفاع به على الرغم من خصائصه التي أودعها الله فيه.
وهنا يعرض السؤال ماهو التدبر الذي تربط به كل تلك المعاني العظام، أقول هذا لأني وجدت كثيراً من الناس يتحدث عن تدبر القرآن وعن أهميته، مع أنه لم يحرر تلك المعاني، ويترتب على هذا معرفة أسباب التدبر وطرقه.
وفي هذه العجالة أحببت أن أبين الفرق بين مفهوم التأمل والتعقل والتدبر؟ فالذي يظهر أن هناك فروق بين هذه الثلاثة.
الفرق بين التأمل والتدبر والتعقل ومعرفة المعنى:
فإن تأمل القرآن هو كما قال ابن القيم: "تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله"(1) . فهو إذن يشتمل على ثلاثة أمور:
1- رؤية معانيه ومراميه بجلاء ومعرفتها بوضوح.
2- جمع الفكر على تدبره.
3- جمع الفكر على تعقله.
فابن القيم جعل مطالعة المعاني أمر، والتفكر أمر ثان، والتعقل شيء ثالث، وهي معان متقاربة إذا اجتمعت حصل التأمل.
أما التدبر فقد قيل في معناه: "هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة (2)" .
ويقول بعضهم في تعريف التدبر: "وهو عند أهل العلم بكتاب الله _جل وعلا_: العمل على تحقيق وتحديق النظر في ما يبلغه المعنى القرآني المَدِيدُ من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم . وهذا نظر لا يتناهَى ، فإن المعنى القرآني له أصل يبدأ منه ولكن منتهاه لا يكاد يبلغه أحدٌ من العباد، فصاحب القرآن الكريم في سفر دائم طلبًا للمزيد من المعنى القرآني .
وكلّ تَعَقُلٍ وتَفَكُّرٍ وتَفَقُّهٍ وتَفَهُّمٍ للبيان القرآني لا يحقق العلم بدرجة من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم لا يكون من تدبر القرآن الكريم في شيْءٍ".
والذي يظهر هو أن التدبر معنى أخص من المعرفة التفصيلة لمعاني الآيات، فالتدبر يقتضي النظر إلى ما تصير إليه عاقبة الكلام في الجملة، وهذا يدفع للعمل بما تم تدبره لاستحضار العاقبة، وفي هذا تعلق واضح بأصل المعنى اللغوي للتدبر الدال على نظر في ما يؤول إليه آخر أمره، ولهذا أثر عن الحسن قوله: "إن هذا القران قرأه عبيد وصبيان لم يأخذوه من أوله، ولا علم لهم بتأويله، إن أحق الناس بهذا القران من رئي في عمله قال الله _تبارك وتعالى_: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب" وإنما تدبر آياته إتباعه بعمله، يقول أحدهم لصاحبه: تعال أقارئك والله ما كانت القراء تفعل هذا والله ما هم بالقراء ولا الورعة لا كثر الله في الناس أمثالهم لا كثر الله في الناس أمثالهم(3)" . فجعل تدبره إتباعه بعمل لأنه الأمر الذي تدعو إليه عاقبته عند من تأمله.
أما التعقل ففيه معنى يقضي بإدراك المعاني المجملة التي تعقل الإنسان وتمنعه من مخالفته.
وكل من التدبر والتعقل لا يتم إلاّ بعلم مجمل المعاني ومراميها.
ولكن ليس من شرط هذا العلم أن يكون تفصيلياً لكل كلمة وكل حرف، بل قد يكون التدبر بإدارك المعنى الإجمالي، وعقل الكليات المرادة بالآية، ولاشك أن التدبر يكمل كلما كان العلم بالمعاني أكمل، وإن لم يكن شرط المعرفة التفصيلية للمعاني وأوجهها لازم لمطلق التدبر.
فمن قرأ (ألم) ولم يعلم حقيقة معناها أو علم أنها أحرف لا معنى لها في ذاتها مجردة، ولكن فهم مرمها، والمقصد من إيرادها، وهو الإشارة إلى إعجاز القرآن اللغوي، حصل له نوع من التدبر المحمود لتلك الأحرف رغم أنه لا معنى لها مجردة في حد ذاتها.
هذا والله أسأل أن يجعلنا من التالين لكتابه الكريم، المتدبرين لآيات القرآن العظيم، المنتفعين بما نقول ونسمع، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
تدبر القرآن دواء القلوب
إن القرآن كلام الله الذي أنزله ليعمل به ويكون منهاج حياة للناس، ولا شك أن قراءة القرآن قربة وطاعة من أحب الطاعات إلى الله، لكن مما لا شك فيه أيضا أن القراءة بغير فهم ولا تدبر ليست هي المقصودة، بل المقصود الأكبر أن يقوم القارئ بتحديق ناظر قلبه إلى معاني القرآن وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وإجالة الخاطر في أسراره وحِكَمه.
القرآن يدعونا إلى التدبر:
إن الله دعانا لتدبر كتابه وتأمل معانيه وأسراره: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) [ص:29].
وقد نعى القرآن على أولئك الذين لا يتدبرون القرآن ولا يستنبطون معانيه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:82، 83].
الناس عند سماع القرآن أنواع:
قال تعالى في آياته المشهودة: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:36، 37].
قال ابن القيم – رحمه الله -: "الناسُ ثلاثةٌ: رجلٌ قلبُه ميتٌ، فذلك الذي لا قلبَ له، فهذا ليست الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجلٌ له قلب حيٌّ مستعدٌّ، لكنه غير مستمعٍ للآيات المتلُوةِ، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم وُرُودها، أو لوصولها إليه وقلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا، فهذا أيضًا لا تحصُلُ له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث: رجلٌ حيُّ القلب مستعدٌّ، تُليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغلْه بغير فهم ما يسمعُهُ، فهو شاهدُ القلب، مُلقي السَّمع، فهذا القِسمُ هو الذي ينتفع بالآيات المتلوَّة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطَّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدَّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسُّطٍ من البُعد والقربِ، فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور.
فاعلم أن الرجل قد يكونُ له قلبٌ وقَّادٌ، مليءٌ باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يُوقعه على التذكُّر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نُورًا على نور، وهؤلاء أكملُ خلق الله، وأعظمهم إيمانًا وبصيرةً، حتى كأنَّ الذي أخبرهم به الرسول مشاهدٌ لهم، لكن لم يشعُرُوا بتفاصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حالِ الصِّدِّيق مع النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل رجلين دخلا دارًا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئيَّاته، والآخر وقعت يدُهُ على ما في الدار ولم ير تفاصيلَهُ ولا جُزئياته، لكن علم أن فيها أمورًا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا فسأله عمَّا رأى في الدار، فجعل كُلما أخبره بشيء صدَّقهن لما عنده من شواهد، وهذه أعلى الدرجات الصديقية، ولا تستبعد أن يَمُنَّ الله المنان على عبدٍ بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصرٍ ولا حُسبان.
فصاحبُ هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نورٌ من البصيرة، ازداد بها نورًا إلى نوره. فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبُهُ ولم يغب حصل له التذكُّرُ أيضًا: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) [البقرة:265]، والوابلُ والطَّلُّ في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها. وأهل الجنة سابقون مقرَّبون وأصحابُ يمين وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما.
الرسول صلى الله عليه وسلم يتدبر القرآن:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". [مسلم].
وبكى صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41] فهل تتوقع أن يكون ذلك من غير تدبر؟
وكان يدعو الأمة إلى التدبر وفهم معاني القرآن، فحين نزل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190، 191]. قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
السلف الصالح يتدبرون القرآن:
كان ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: "ركعتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وكان الفضيل – رحمه الله – يقول: "إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً. قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه".
وعمليًا كان منهم من يقوم بآية واحدة يرددها طيلة الليل يتفكر في معانيها ويتدبرها. ولم يكن همهم مجرد ختم القرآن؛ بل القراءة بتدبر وتفهم.. عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ(إذا زلزلت) و(القارعة) لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما، وأتفكر أحبُّ إليَّ من أن أَهُذَّ القرآن (أي أقرأه بسرعة)".
من ثمار التدبر:
اعلم رعاك الله أن العبد إذا وفق لتدبر آيات الله تعالى فاز بالخير العميم، يقول ابن القيم – رحمه الله -:
"فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما. وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده(تضع) مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم. وتبصره مواقع العبر. وتشهده عدل الله وفضله. وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها. وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم. ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه. وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة تعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه ..أمور ضروري للعبد معرفتها. ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها. وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم. فتريه الحق حقا، والباطل باطلا. وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال. والغي والرشاد. وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا. فيصبر في شأن والناس في شأن آخر.
فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم. والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم. وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه. وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص. وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح. وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه. وعلى تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات، في خلقه وأمره.
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل. وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل. وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل. وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل. وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل. وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل. وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل. فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل. وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل. وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
(منقول)
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
15/9/1426
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
إن كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولاتنفد عبره، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: "إنا سمعنا قرآنا عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا"، قال الله _تعالى_: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم"، كتاب ربنا من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن خاصم به فلج، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
نورٌ على مَرِّ الزمان تألـقــا
وأضـاءَ للدنيا طريقاً مُشرقا
وهدى من الرحمن يهدينا بــه
للصالحـات وللمكارم والتقى
هذا كتـاب الله زاد قلوبـنا
وشفاؤنا مـن كل داء أرهقا
هذا هو القرآن مصـدر عزنا
فبه تبوأنا المكـان الأسـمقا
ياحافـظ القرآن لست بحافظ!
حتى تكون لما حفظت مطبقاً
ماذا يفيـدك أن تسمى حافظاً
وكتاب ربك في الفؤاد تمزقا
يا أُمَّتي القـرآن حبـلُ نجاتنا
فتمَسَّكِي بِعُرَاه كي لانغرقا
ولتجمعي حول الكتاب شتاتنا
حتى نزيل تنـاحراً و تفرقا
ولتجعليه محـكما في أمـرنا
وثقي بوعد الله أن يتحققا
ولعل سبيل الخلوص إلى تلك المعاني وعظم تأثر المرء بها منوط بتدبر القرآن، ولهذا قال الله _تعالى_: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" [النساء:82]، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد:24]، فدل هذا على أن ترك التدبر حال أقوام عن الانتفاع به على الرغم من خصائصه التي أودعها الله فيه.
وهنا يعرض السؤال ماهو التدبر الذي تربط به كل تلك المعاني العظام، أقول هذا لأني وجدت كثيراً من الناس يتحدث عن تدبر القرآن وعن أهميته، مع أنه لم يحرر تلك المعاني، ويترتب على هذا معرفة أسباب التدبر وطرقه.
وفي هذه العجالة أحببت أن أبين الفرق بين مفهوم التأمل والتعقل والتدبر؟ فالذي يظهر أن هناك فروق بين هذه الثلاثة.
الفرق بين التأمل والتدبر والتعقل ومعرفة المعنى:
فإن تأمل القرآن هو كما قال ابن القيم: "تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله"(1) . فهو إذن يشتمل على ثلاثة أمور:
1- رؤية معانيه ومراميه بجلاء ومعرفتها بوضوح.
2- جمع الفكر على تدبره.
3- جمع الفكر على تعقله.
فابن القيم جعل مطالعة المعاني أمر، والتفكر أمر ثان، والتعقل شيء ثالث، وهي معان متقاربة إذا اجتمعت حصل التأمل.
أما التدبر فقد قيل في معناه: "هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة (2)" .
ويقول بعضهم في تعريف التدبر: "وهو عند أهل العلم بكتاب الله _جل وعلا_: العمل على تحقيق وتحديق النظر في ما يبلغه المعنى القرآني المَدِيدُ من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم . وهذا نظر لا يتناهَى ، فإن المعنى القرآني له أصل يبدأ منه ولكن منتهاه لا يكاد يبلغه أحدٌ من العباد، فصاحب القرآن الكريم في سفر دائم طلبًا للمزيد من المعنى القرآني .
وكلّ تَعَقُلٍ وتَفَكُّرٍ وتَفَقُّهٍ وتَفَهُّمٍ للبيان القرآني لا يحقق العلم بدرجة من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم لا يكون من تدبر القرآن الكريم في شيْءٍ".
والذي يظهر هو أن التدبر معنى أخص من المعرفة التفصيلة لمعاني الآيات، فالتدبر يقتضي النظر إلى ما تصير إليه عاقبة الكلام في الجملة، وهذا يدفع للعمل بما تم تدبره لاستحضار العاقبة، وفي هذا تعلق واضح بأصل المعنى اللغوي للتدبر الدال على نظر في ما يؤول إليه آخر أمره، ولهذا أثر عن الحسن قوله: "إن هذا القران قرأه عبيد وصبيان لم يأخذوه من أوله، ولا علم لهم بتأويله، إن أحق الناس بهذا القران من رئي في عمله قال الله _تبارك وتعالى_: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب" وإنما تدبر آياته إتباعه بعمله، يقول أحدهم لصاحبه: تعال أقارئك والله ما كانت القراء تفعل هذا والله ما هم بالقراء ولا الورعة لا كثر الله في الناس أمثالهم لا كثر الله في الناس أمثالهم(3)" . فجعل تدبره إتباعه بعمل لأنه الأمر الذي تدعو إليه عاقبته عند من تأمله.
أما التعقل ففيه معنى يقضي بإدراك المعاني المجملة التي تعقل الإنسان وتمنعه من مخالفته.
وكل من التدبر والتعقل لا يتم إلاّ بعلم مجمل المعاني ومراميها.
ولكن ليس من شرط هذا العلم أن يكون تفصيلياً لكل كلمة وكل حرف، بل قد يكون التدبر بإدارك المعنى الإجمالي، وعقل الكليات المرادة بالآية، ولاشك أن التدبر يكمل كلما كان العلم بالمعاني أكمل، وإن لم يكن شرط المعرفة التفصيلية للمعاني وأوجهها لازم لمطلق التدبر.
فمن قرأ (ألم) ولم يعلم حقيقة معناها أو علم أنها أحرف لا معنى لها في ذاتها مجردة، ولكن فهم مرمها، والمقصد من إيرادها، وهو الإشارة إلى إعجاز القرآن اللغوي، حصل له نوع من التدبر المحمود لتلك الأحرف رغم أنه لا معنى لها مجردة في حد ذاتها.
هذا والله أسأل أن يجعلنا من التالين لكتابه الكريم، المتدبرين لآيات القرآن العظيم، المنتفعين بما نقول ونسمع، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
تدبر القرآن دواء القلوب
إن القرآن كلام الله الذي أنزله ليعمل به ويكون منهاج حياة للناس، ولا شك أن قراءة القرآن قربة وطاعة من أحب الطاعات إلى الله، لكن مما لا شك فيه أيضا أن القراءة بغير فهم ولا تدبر ليست هي المقصودة، بل المقصود الأكبر أن يقوم القارئ بتحديق ناظر قلبه إلى معاني القرآن وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وإجالة الخاطر في أسراره وحِكَمه.
القرآن يدعونا إلى التدبر:
إن الله دعانا لتدبر كتابه وتأمل معانيه وأسراره: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) [ص:29].
وقد نعى القرآن على أولئك الذين لا يتدبرون القرآن ولا يستنبطون معانيه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:82، 83].
الناس عند سماع القرآن أنواع:
قال تعالى في آياته المشهودة: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:36، 37].
قال ابن القيم – رحمه الله -: "الناسُ ثلاثةٌ: رجلٌ قلبُه ميتٌ، فذلك الذي لا قلبَ له، فهذا ليست الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجلٌ له قلب حيٌّ مستعدٌّ، لكنه غير مستمعٍ للآيات المتلُوةِ، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم وُرُودها، أو لوصولها إليه وقلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا، فهذا أيضًا لا تحصُلُ له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث: رجلٌ حيُّ القلب مستعدٌّ، تُليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغلْه بغير فهم ما يسمعُهُ، فهو شاهدُ القلب، مُلقي السَّمع، فهذا القِسمُ هو الذي ينتفع بالآيات المتلوَّة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطَّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدَّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسُّطٍ من البُعد والقربِ، فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور.
فاعلم أن الرجل قد يكونُ له قلبٌ وقَّادٌ، مليءٌ باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يُوقعه على التذكُّر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نُورًا على نور، وهؤلاء أكملُ خلق الله، وأعظمهم إيمانًا وبصيرةً، حتى كأنَّ الذي أخبرهم به الرسول مشاهدٌ لهم، لكن لم يشعُرُوا بتفاصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حالِ الصِّدِّيق مع النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل رجلين دخلا دارًا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئيَّاته، والآخر وقعت يدُهُ على ما في الدار ولم ير تفاصيلَهُ ولا جُزئياته، لكن علم أن فيها أمورًا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا فسأله عمَّا رأى في الدار، فجعل كُلما أخبره بشيء صدَّقهن لما عنده من شواهد، وهذه أعلى الدرجات الصديقية، ولا تستبعد أن يَمُنَّ الله المنان على عبدٍ بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصرٍ ولا حُسبان.
فصاحبُ هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نورٌ من البصيرة، ازداد بها نورًا إلى نوره. فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبُهُ ولم يغب حصل له التذكُّرُ أيضًا: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) [البقرة:265]، والوابلُ والطَّلُّ في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها. وأهل الجنة سابقون مقرَّبون وأصحابُ يمين وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما.
الرسول صلى الله عليه وسلم يتدبر القرآن:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". [مسلم].
وبكى صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41] فهل تتوقع أن يكون ذلك من غير تدبر؟
وكان يدعو الأمة إلى التدبر وفهم معاني القرآن، فحين نزل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190، 191]. قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
السلف الصالح يتدبرون القرآن:
كان ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: "ركعتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وكان الفضيل – رحمه الله – يقول: "إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً. قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه".
وعمليًا كان منهم من يقوم بآية واحدة يرددها طيلة الليل يتفكر في معانيها ويتدبرها. ولم يكن همهم مجرد ختم القرآن؛ بل القراءة بتدبر وتفهم.. عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ(إذا زلزلت) و(القارعة) لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما، وأتفكر أحبُّ إليَّ من أن أَهُذَّ القرآن (أي أقرأه بسرعة)".
من ثمار التدبر:
اعلم رعاك الله أن العبد إذا وفق لتدبر آيات الله تعالى فاز بالخير العميم، يقول ابن القيم – رحمه الله -:
"فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما. وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده(تضع) مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم. وتبصره مواقع العبر. وتشهده عدل الله وفضله. وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها. وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم. ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه. وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة تعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه ..أمور ضروري للعبد معرفتها. ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها. وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم. فتريه الحق حقا، والباطل باطلا. وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال. والغي والرشاد. وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا. فيصبر في شأن والناس في شأن آخر.
فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم. والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم. وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه. وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص. وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح. وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه. وعلى تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات، في خلقه وأمره.
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل. وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل. وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل. وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل. وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل. وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل. وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل. فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل. وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل. وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
(منقول)
الموضوع : تدبر القرآن وتعقّله وتأمّله المصدر : منتديات شمير الكاتب: ابوبكرعبدالودود
توقيع العضو : ابوبكرعبدالودود |