إختبـار تكـون بـه السعادة أم الشقــاء
كل المعطيات الكونية تؤكد أن هناك حكمة عليا وراء هذا الخلق، وأن لكل الأحياء وظيفة ورسالة، لا ينبغي أن تُطمس بالغفلة تحت ركام المادة والمغالاة بها.فحين يستيقظ ضمير الإنسان، ويتطلع إلى الكون من حوله، يرى أن كل ذلك مسخر له، بل يرى أن الكون الكبير صديق له.
ورحمةً من اللّه بعباده، لم يتركهم بتلك المعطيات فحسب، بل تعاقب المرسلون جميعا بإذن ربهم، لتعريف الناس بحكمة ومغزى الحياة، حقوقِها وواجباتها، وسائِلها وغاياتها.
فحقيقة الحياة من أولها لآخرها، اختبار لا محيص عنه للبشر جميعا.
أي أن الوجود الموقوت لنا، له حكمة، وله نهاية، والموت نهاية كل مخلوق ثم الرجعى إلى اللّه تعالى، والآن نصل الآية بشطرها الأول: {كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموْتِ..} فإن كان هذا هو القانون الذي لا استثناء له، فما العمل إذا كان الكل سيناله هذا المذاق؟
العمل هو الإنتفاع بوحي الفطرة، والإستماع لوحي اللّه، فالدنيا ليست سوى دار ممر ولها ما بعدها، قال تعالى: {تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الملْكُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ الذِي خَلَقَ الموْتَ وَالحيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك1 ـ 2).
يقول ابن القيم رحمه اللّه:الناس مُذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين إلى اللّه، وليس لهم حطٌ لرحالهم إلا في الجنة أو في النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يُطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، وقال: الناس معذبون بالدنيا على قدر همّهم بها. ولسنا بهذا نريد العيش على هامش الحياة، إنما ننكر، كما شدّد القرآن النكير على الشراهة في طلبها، والغفلة عن الذي أرسلها إلينا سبحانه.
فلسنا نعرف الناس قد غالَوا بشيء قط، مغالاتهم بتلك الحياة، فكأنما خُلقوا لها وحدها، ولا شيء بعدها، مع أن اللّه صارحنا بأنها دار اختبار مليئة بالأكدار، يقول الإمام الطبري في معنى الآية: يعنى بقوله تعالى ذكره: تعاظم وتعالى الذي بيده ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما، نافذٌ فيهما أمره وقضاؤه، وقوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} ليختبركم فينظر أيكم له أيها الناس أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع، قال قتادة: أذل اللّه ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
وهنا لفتة ناقشها المفسرون، ألا وهي لماذا قُدم الموت على الحياة؟ يقول الشوكاني في تفسيره: قدم الموت على الحياة لأن أصل الأشياء عدم الحياة، والحياة عارضة لها.
أي أن الوجود الذي نمرح فيه الآن هو هبة اللّه إلى خلقه، ولو شاء لحرمنا منه ولتلاشى كل شيء، ومن هنا وجب تدبر سر الوجود، وغاية الخلق.
إن الإسلام كما قلنا لا يطلب منا أن نتجهم للحياة، ولكنه يطلب منا ألا نُفتن بها، لنعيش حقيقتها السامية، وما حقيقتها السامية إلا ذلك الإشراق الإلهي الذي يبدد كثافة المادة وأغلالها، فهنا يعيش المرء مبدأ إسلام الذات، ويتحرر من أوهام دنياها التي فتكت بالكثير ولا تزال.
إذاً الابتلاء هو طبيعة الدار التي نعيش فيها، والابتلاء بالشر مفهوم أمره، ليكتشف مدى احتمال العبد وصبره، ومدى ثقته بربه، ورجائه في رحمته، أما الابتلاء بالخير فإنه كما أشار العلماء أشد وطأة على النفس من الابتلاء بالخير.
فحين يبتلى المرء بالمرض أو الضعف، فإن ذلك قد يثير فيه كبرياء إيمانه، أما حين يبتلى بالصحة والقدرة، فإن قليلين هم الذين يشكرون، أو قُل يصبرون على ما قد يغري به ذلك المال من شهوات وأطماع ! لذلك سمّت الآية كلا الأمرين فتنة.
والسعيد من أيده اللّه، وأمسى كما وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن الحكيم: »إن أصابته سرّاءُ شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرا له« (رواه مسلم).
وليس هناك أحسن ولا أعون للإنسان لنجاحه في هذا الإبتلاء الطويل، والإختبار الذي لا محيص عنه، ولا أعون له كذلك لفهم حكمة الوجود الإنساني، من يقظة النفس، والصلة باللّه واهب الحياة، فهما الضمانة الفذة، وسبب السعادة في الأولى والآخرة
الموضوع : الدنيا إختبـار تكـون بـه السعادة أم الشقــاء المصدر : منتديات شمير الكاتب: حسن البكري
توقيع العضو : حسن البكري |