سمعت اليوم أن دولة الأمارات العربية قررت توحيد الأذان. أي أن يكون هنالك أذان واحد ينقل من مسجد واحد بمكبرات الصوت لجميع المساجد في المدينة. ومهما كانت الدواعي فالواضح أن القرار قصد به خفض الضجيج. وما يؤكد ذلك أنهم قرروا أيضاً أن تكون الإقامة والصلاة لمن بداخل المسجد فقط فلا تبث على مكبرات الصوت للخارج.
جعلني ذلك القرار أعود بذاكرتي لأيامي الأولى بالمملكة العربية السعودية. في ذلك الوقت، كانت البنات في هذه البلاد من سن الخامسة أو السادسة يتحجبن بالكامل. وحتى مدارس البنات كانت ولا زالت تفرض الحجاب الكامل على الطالبات من الصف الرابع. الآن من المعتاد مشاهدة بنات في سن مابين العاشرة والخامسة عشر في المجمعات التجارية وبرفقة أسرهم وهن بلا حجاب. وفي نفس الفترة كانت جميع النساء يتغطين بالعباءة السوداء السادة الفضفاضة مع غطاء الوجه والجوارب والقفازات. أذهب الآن للمجمعات التجارية: لن تشاهد غطاء الوجه فقد إختفى تماماً وحل محله نقاب لا يغطي العينين. وإختفت العباءة الفضفاضة تماماً وحلت محلها فساتين طويلة ضيقة مخصرة سوداء مطرزة أو مزركشة. وإختفت الجوارب والقفازات وصرنا نشاهد المانيكير في أظافر السعوديات. ما هو مستقبل اللباس الشرعي؟ حسب التدرج المنطقي لا مستقبل له. قال لي زميل مصري أنه عندما كانت للتنظيمات الإسلامية سطوة في مصر خاصة في الجامعات، وذلك ما بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، إرتفعت نسبة الحجاب بين الشابات لأكثر من الثلاثة أرباع. وعندما بدأت الحكومة ضرب وتصفية هذه التنظيمات إنخفضت النسبة للربع.
في ذلك الوقت كان التلفزيون يعتبر عند البعض في هذه البلاد من أكبر الخطايا. أحد الإخوان السودانيين ثار في وجهه زميله السعودي عندما علم بأنه لديه تلفزيون في البيت. ولإرضائه ذكر الأخ السوداني أنه سيقوم بإعطائه لآخر. فرد السعودي بأن ذلك كمن يجرم شخصاً آخر. الحل هو في تكسير التلفزيون. بعد اقل من عام من ذلك صار التلفزيون مقبولاً من الجميع. وتزامن توقف الحملة عليه ببداية الحملة على الأطباق الهوائية، والتي وصلت لدرجة قيام المطاوعة بضربها بالبنادق على اسطح المساكن. وبعد اقل من عامين من ذلك صارت الأطباق الهوائية شيئاً معتاداً تجده حتى في منازل الشيوخ. بل وتعددت القنوات الفضائية الدينية الإسلامية حتى تجاوز عددها العشرات. وصارت هنالك قنوات للتعارف (الإسلامي) بين الجنسين برعاية رجال الدين. وبعد برود الحملة على الأطباق الفضائية تحولت الحملة على الإنترنت، ثم عندما فشلت الحملة تركزت على إستخدام النساء للإنترنت. ولا بد أن مصيرها مصير الحملات السابقة.
في ذلك الوقت، وفي خطبة صلاة الجمعة الأخيرة في رمضان "الجمعة اليتيمة" في أحد مدن المملكة، سمعت الإمام يذكر أنه يستحب إخراج زكاة الفطر في البلد المقيم به الشخص المسلم. في السنة التالية ذكر نفس الإمام صراحة: لا يجوز إخراج زكاة الفطر خارج البلد المقيم فيها الشخص المسلم. ولا يجوز إخراج قيمتها النقدية، بل لابد من أن تكون من غالب قوت أهل البلد. يبدو أن زكاة الفطرالتي كنا نظن أنها واجب ديني (سنة مؤكدة) يخرجه القادرين لغير القادرين من المسلمين أينما كانوا، في طريقها لأن تصير أداة ضبط إقتصادي لمنع خروج الأموال الى خارج الدولة. إذ من سيرسل أرزاً من السعودية لفقراء السودان؟ رأيت بعض النساء يجلسن مع اطفالهن لإستلام زكاة الفطر المكونة من الأرز. ويقمن بتحويل أكياس الأرز المستلمة للباعة الموجودين بقربهم، لتتم الدورة، فتعلم أن هنالك إتفاق بين هؤلاء وهؤلاء. لقد تحولت زكاة الفطر لنوع مستحدث من التجارة.
سبب الجوال عند تداوله في هذه البلاد قبل عدد قليل من السنوات إزعاجاً للكثيرين أثناء تأدية الصلاة. ولذلك كان التشديد على إغلاق الجوال قبل إقامة الصلاة. وركبت ملصقات داخل وخارج المساجد تدعو لذلك. وقام الأئمة بتنبيه المصلين لضرورة إغلاق الجوال. وفي بعض المساجد مارس المصلون نوعاً من التوبيخ الصامت والناطق على حاملي الجوالات التي ترن أثناء الصلاة. وغير بعضهم النغمات .... أما الآن فقد فتر حماس الأئمة لذلك فصارت الجوالات ترن وتتبادل الرنين. في أحد المرات رن هاتف الشخص المجاور لي في الصلاة 5 مرات خلال صلاة واحدة. مما يجعلني أعتقد أن البعض يتعمد ترك الجوال مفتوحاً لئلا تفوتهم الإتصالات. ولأدهى من ذلك أنه صار مسلماً به – خلال الصلاة – أن يخرج المصلي جواله من جيبه لمعرفة من المتصل ثم يعيد الجوال للجيب ويواصل صلاته. وأخشى ان تكون الخطوة القادمة هي الرد المختصر على المتصل ... بما لا ينقض الصلاة !!!!!! واترك لكم تخيل الخطوة التي تليها.
عندما كنا صغاراً كان الحج من الأمور الشاقة: سفر بالقطار والباخرة وإقامة في الطرقات والعراء ومشي متصل بالأقدام وتجهيزات غير كافية. الآن صار هنالك ما يدعى بالحج السياحي. بوفيه مفتوح وخيام مكيفه وفراش وثير وكل وسائل الراحة .. لا ينقص الحجاج المرفهين إلا التلفزيون والكوتشينه !!!! بل إن الحج والعمرة صار يطلق عليها إسم "السياحة الدينية". وأيضاً لا داعي للمبيت في حصباء المزدلفة في الحج، إذ يكفيك أن تظل في داخل البص المكيف حتى منتصف الليل وتتحرك لمقر إقامتك وكأنك كنت في رحلة ترفيهية. وعندما حاولت السلطات تحديد اعداد الحجاج وجد من يتحايل ومن يغش ومن هو مستعد لدفع الرشوة ليستطيع الحج. هل يجزي مثل هذا الحج؟ وحتى في الحج فقد تم التساهل في الحدود الشرعية للمشاعر المقدسة وصارت الجمرات ثلاثة طوابق. ولئن عشنا لراينا قطاراً متحركاً لييسر على الحجاج رمي الجمرات وأداء المناسك. وبالمناسبة فهنالك مشروع لإقامة خطوط حديدية لتيسير تنقل الحجاج داخل المشاعر وبينها والمدينة المنورة.
ظللنا ندرس أن الصيام هو تهذيب وتزكية للنفس وتقرب لله من خلال منع النفس من الشهوات. إلا أن الصيام – وإن حافظ على شكله – إلا أن مضمونه تغير. فقد تم تطوير القوانين والأعراف والعادات والبرامج بحيث يظل الصائم نائماً طوال النهار وصاحياً طوال الليل ويظل الشهر الكريم أقل الشهور إنتاجاً. وقد أسر لي أحد الزملاء السعوديين بأنه يأكل في رمضان 5 وجبات. ومشاهدة السعوديين يتسوقون خلال شهر رمضان يدرك كم هو صحيح هذا القول.
ظللنا نعتبر أن الزواج في جوهره هو مؤسسة إجتماعية يتحد فيها رجل وإمرأة لخلق أسرة وإنجاب وتنشئة الأبناء تحت بصر وقبول المجتمع. وهو أيضاً إستيفاء لواجب ديني ... فالزواج هو نصف الدين. ولذلك لم يكن هنالك تناقض بين الديني والإجتماعي فيه. مؤخراً بدأنا نسمع عن زيجات مثل المسيار والإيثار والعرفي والمتعة والمصياف والتي يقال عنها أنها مقبولة دينياً ولكنها لا تتفق مع التعريف الإجتماعي للزواج. ونسمع عن فتاوى مثل فتوى تحليل الزواج بنية الطلاق. بغض النظر عن شرعية هذه المستحدثات فإنه ليس هنالك إجماع في المجتمع على قبولها. وربما كانت محاولة لتحويل الزواج لمجرد علاقة جنسية بين طرفين لا تتبعها مسؤوليات الأسرة، أو هي محاولة لتقنين الزنا.
ماذكرته عن الكثير من العبادات ينطبق على الصلاة. لا يحتاج المرء لكبير عناء لتبيان أن نسبة المصلين في هذه البلاد في تناقص مستمر. والكثير من الشباب هنا وصلت بهم الجرأة درجة صاروا معها لا يتورعون عن الجلوس و"الونسة" بقرب المسجد حتى إنتهاء الصلاة. مصلى الشركة التي أعمل فيها يكاد يضيق بالمصلين خلال شهر رمضان، بينما العدد لايصل للربع في غيره. والكثير من الأئمة يشتكي من ضعف إقبال الناس على المساجد ... خاصة لصلاة الفجر. وحتى المصلين قد تجد بعضاً منهم يتشاغل بتنظيف اظافرة أو تمسيد كفه أو أي شئ إنصرافي آخر وهو قائم للصلاة. يبدو أن الصلاة تتجه لأن تكون شكلاً إجتماعياً بلا مضمون.
في السفارة السودانية سالني الموظف المختص بالزكاة عن المبلغ الذي أريد دفعه كزكاة. هذا السؤال ينسف المرجعية الدينية للزكاة ويجعلها نوعاً من التبرع الإلزامي. وحتى المبالغ المتحصلة بهذه الطريقة لا يتم التصرف فيها حسب القواعد الدينية. مع ملاحظة أن هنالك شك كبير حول هل تستحق الزكاة على امال الذي لم يدور عليه الحول. الزكاة كشعيرة دينية يتم تحويلها لشئ آخر دنيوي بحت.
قبل ان نعرف المصارف الإسلامية كانت المصارف التجارية تقرض المحتاجين وتضمن في القرض فائدة قليلة. الآن تقوم المصارف الإسلامية بإقراض المحتاجين وتتقاضى مبالغ طائلة تحت أسماء مثل مرابحة أو رسوم إدارية ... ويبدو لي أن المصارف التجارية أقرب للمعقول بالنسبة للمقترض من المصارف المسماة إسلامية. وتعمل هذه على تيسير إكتناز المال بين القلة.
بعض المفاهيم الدينية كالجهاد وطاعة أولي الأمر يتم تجريدها من محتواها الديني السماوي وتفريغها لتصبح أداة أرضية في يد من يستخدمها. بل وتستحدث أحكام وفتاوي يرفضها العقل وإن وجدت لها سنداً في السنة مثل رضاعة زميل العمل وزواج الفريند. وحتى في سوداننا لم نعدم من يطالب – من منطلق ديني - بمراجعة قوانين الأحوال الشخصية لمساواة المرأة بالرجل في الميراث وإيقاف التمييز ضد المرأة ومنع التنقب وإلغاء حدود السرقة والردة ومن يتحدث علانية عن إمامة المرأة للصلاة وعن جواز الردة وعدم جواز حد المرتد. ولم يعدم العالم الإسلامي حكاماً يستخدمون الدين كسلاح لإذلال وقهر الشعوب. ألم يقل النميري حينما اصدر قوانين سبتمبر " حننط عليهم في بيوتهم ونحاكمهم بالقانون البطال دا"؟؟
يبدو أن التغير الذي حدث في تعامل الناس والمجتمعات مع المسلمات الدينية خلال العقدين الماضيين أكبر مما حدث خلال الأربعة عشر قرن الماضية وفي جميع المجالات. بإستخدام نظرية المتوالية الهندسية يمكننا أن نتخيل بإن التغيير القادم لا محالة أكبر. ومن الواضح أن الإحتكاك بالآخرين من غير المسلمين وتفوقهم الحضاري على المسلمين والإختراعات الحديثة والتعليم وإزدياد وسهولة السفر والتواصل مع الآخرين لها دور كبير في هذا التغيير. وهذه كلها مرشحة للزيادة.
من كل ما سبق أود ان اطرح هذا السؤال على الجميع: هل الدين في تطور أم أن المسلمون في طريقهم لمفارقته؟