سقطرى.. قطعة من السماء على ارض منسيه((3))
كنا في اليوم التالي من الزيارة على موعد مع مزيد من الإثارة والتشويق، بحسب منظمي الرحلة كان يجب أن نذهب إلى أحد الكهوف المعروفة في جزيرة سقطرى، وهو "كهف حُق" الذي يقع على أعلى قمة في المنطقة، خرجنا من الفندق والأمطار تمنح الجزيرة الجميلة مزيداً من الجمال والروعة، كانت السحب والضباب تغطي قمم الجبال بل وتناطحها، وانطلقنا باتجاه منطقة حق التي يقع فيها الكهف.
في الطريق كانت الطبيعة تفصح عن أسرارها، والحياة التي يعيشها السقطريون تتضح بساطتها، مررنا على مناطق يسيل فيها الماء من الجبال المرتفعة وأشجار النخيل تغطيها، ومنازل تتناثر هنا وهناك، الجميع يسكن على السهل، لا أحد يسكن على قمم الجبال، رغم جمالها، قبل الوصول إلى الكهف مررنا على أماكن جميلة كانت مغرية للتصوير، خاصة تلك القريب من محمية "روش" البحرية، حيث وجدنا أشجار تنبت من الصخر في تناغم عجيب مع الطبيعة.
وصلنا إلى المكان المقرر أن نصعد منه باتجاه الجبل، كان الجميع يتأهب متحمساً لمعرفة الكهف المثير، لكنهم لم يكونوا يعرفون ما ينتظرهم. تمت الاستعدادات للصعود، ووزع المنظمون كشافات إضاءة يتم استخدامها داخل الكهف المظلم، وتزود الصاعدون بالماء، خاصة وأن في أعلى الجبل لا يوجد ما يمكن شراؤه من ماء وبعض المرطبات، وهو أمر قال عنه الشاب الذي جاء مع المجموعة كدليل إنه غير مربح، فالناس الذين يصعدون إلى قمة الجبل لا يشترون، كما أنه يعطي مبرراً آخر يدفع أبناء سقطرى عن استغلال المكان لغرض بيع العصائر والمياه والمرطبات بالقول إن ذلك يلوث الطابع البيئي للجزيرة. وفي هذه الجزئية لديه كامل الحق، فالناس يمكنهم أن يلحقوا الضرر بالبيئة إذا ما سمح لهم بتناول الأطعمة والمشروبات في أعلى الجبل، وكان الشاب نفسه قد بدا غاضباً عندما رأى بعض القناني الفارغة مرمية على الطريق، حتى أنه شكا لقائد المجموعة هذا السلوك الذي اعتبره غير حضاري.
بدا الكهف لكثير من أفراد المجموعة قريباً، مع أننا كنا نخشى ألا يتمكن البعض من الصعود إلى أعلى قمة في الجبل حيث الكهف، خاصة لمن لديه مشاكل في القلب، مع ذلك كان الجميع متحمساً لخوض المغامرة. بدأنا في الصعود في ظل حماس شديد وتسابق من قبل البعض، وحديث ومزاح بين الجميع، كان في الفريق شباباً رائعين أضفوا على الرحلة كثيراً من المرح، فقد كانوا ملح الرحلة وسُكّرَها. ومع مرور الوقت بدأ الإرهاق ينال من الجميع.
لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، مواصلة قضم الجبل باتجاه الكهف بالحماسة نفسها التي بدأناها، لهذا كانت هناك أكثر من "استراحة محارب" في الطريق إلى قمة الجبل، وكنا نغبط السائحين الإيطاليين الذين كانوا قد أنهوا مهمتهم بنجاح وصاروا في "اتجاه معاكس" لنا، فقد كان هؤلاء يرمون لنا التحية ويشجعوننا على مواصلة الرحلة، لأنها تستحق التعب.
بعد ساعتين أو أقل قليلاً من الصعود إلى الأعلى، كنا قد بلغنا قمة الجبل بمجموعات متناثرة، البعض وصل في الموعد والبعض الآخر تأخر قليلاً، والبعض الآخر تأخر أكثر من اللازم، وحده الخبير في شؤون الجزيرة الأستاذ عبد الرحمن فضل الإرياني كان أذكى منا في التعامل مع الوضع، فلم يصعد متحمساً كما فعلنا واستسلمنا في نهاية الجبل، حتى كدنا نصل إلى قناعة بأننا لن نصل قمة الجبل ولن نرى الكهف أبداً. ومع أن الأستاذ عبد الرحمن وصل متأخراً، إلا أنه لم يصل مجهداً كما حدث مع الكثير منا.
في الطريق إلى الجبل، بخاصة الأمتار الأخيرة كنا نمطر دليلنا الشاب بمزيد من أسئلتنا الملحة: "كم بقي من الوقت لنصل إلى الكهف؟". ولأنه يدرك المسألة وصعوبة الرحلة، كان يهون علينا الموضوع بإجابة قصيرة: "خلاص قربنا، باقي عشر دقائق ونصل"، كانت الدقائق العشر التي يعد بها الدليل تطول وتطول، وفجأة كنا نكتشف أننا قد أمضينا ساعة في الصعود إلى الجبل وعشر دقائق الدليل لم تنته، لكن المسافة الباقية كان الدليل النشط يقطعها في أقل من عشر دقائق.
بعد وصولنا إلى قمة الجبل، صرنا وجهاً لوجه مع الكهف المثير. عندما بدأنا بدخوله نسينا تعب الرحلة وصعود الجبل، فقد كان الكهف يثير في الجميع دهشة وإثارة، كانت الصخور النابعة من الأرض داخل الكهف والمسنونة والتي تعطي أشكالاً هندسية عجيبة تدهش الجميع.
"مغارة جعيتا"
لمن رأى "مغارة جعيتا" في لبنان بالقرب من نهر الكلب، فإن "كهف حُق" قريباً منها، مع فوارق عديدة أن كهف سقطرى لا تصله أية وسيلة مواصلات عكس "جعيتا"، والاهتمام بالمغارة في لبنان غير موجود في كهف سقطرى، فيد الإنسان لم تمتد إليه قط، لهذا كان الاستعانة بالمصابيح ضرورياً للتجول في الكهف، الذي كان عميقاً إلى الدخل في مسافة تصل إلى ثلاثة كيلومترات تقريباً.
في كل متر كنا نسير فيه داخل الكهف كانت أشياء جديدة تدهشنا: الصخور المدلاة من الكهف التي شكلها الخالق بطريقة عجيبة بديعة، والصخور التي تنبت من الأرض وتتشكل بطريقة جميلة لا تجدها إلا في هذا الكهف البديع، كما حال "مغارة جعيتا"، وفي نهايته تتدفق مياه عذبة صافية... إلا أن غياب الخدمة داخل الكهف جعلتنا نعود من جديد إلى حيث جئنا، لكن الوزير الإرياني الذي جاء بعدنا واصل مع بعض من رافقه إلى أماكن أبعد.
بعد الخروج من الكهف بدت لنا المسافة بعيدة، كنا نتمنى لو أن هناك وسيلة تقرب المسافة أكثر وتختصر علينا عناء الهبوط، فقد كان الهبوط من الجبل إلى السفح أصعب بكثير من الصعود إلى القمة، خاصة وأن الطريق غير مريح، فالجميع يسير على صخور وأحجار وضعت علاماتها أقدام الصاعدين والهابطين فتحولت إلى طريق غير آمن.
وكان انطباع الكثير من أن الهبوط سيكون أسهل قد نسفته التجربة، إذ أن عملية النزول بدت أصعب بكثير من الصعود، خاصة وأنها جاءت مع شد عضلي جعل البعض يسقط في الطريق قبل أن يواصل، فبدا الطريق طويلاً لدرجة كنا نرى البحر وكأنه في جزيرة عبد الكوري وليس في سقطرى.
لكن لماذا لم يتم تنفيذ مشروع يسهل للناس صعود الجبل لرؤية الكهف ونزوله؟ إن هذا أمر غير مفهوم، البعض لا يزال يعتقد أن إدخال مثل هذه المشاريع يقضي على فكرة الإثارة التي توفرها رحلة الصعود إلى الجبل والعودة من نفس الطريق، ويبرر البعض هذه الخطوة بعدم جدوى إقامة مشروع العربات الجوية، أي "التلفريك"، كما هو حاصل في بعض المناطق اليمنية والعالمية، خاصة مع قلة السياح الذين يصلون إلى الجزيرة، والذين يكون تواجدهم في مناسبات معينة، بالإضافة إلى غياب السياحة الداخلية، لهذا فإن إقامة هذه المشاريع في ظل غياب التدفق السياحي الكبير ستكون غير مربحة، فيما يتخوف البعض من مسؤولي الجزيرة من أن يشكل إقامة مثل هذه المشاريع خطراً على البيئة السقطرية، إذ ستلحق هذه المشاريع استحقاقات أخرى لا تحتاجها بيئة الجزيرة.
بعد ساعات من التعب عدنا إلى محمية روش البحرية لتناول وجبة الغداء، حسب ما كان مخططاً، وسط العشرات من طيور البحر التي كانت تهبط إلى جانبنا دون خوف أو وجل، وكانت تقف على صخور قريبة منا. ثم انقسم أعضاء الفريق ما بين الراغبين في العودة إلى الفندق للراحة وبين من فضل الذهاب إلى البحر للسباحة، وهو ما حدث، حيث قضى من ذهب إلى شواطئ منطقة "عرهر" يوماً جميلاً.
كان ذلك اليوم مرهقاً، استدعى من البعض البقاء في الفندق ما تبقى من اليوم، ثم الخروج إلى شارع حديبو الوحيد للتعرف على حياة الناس البسيطة وشرب الشاي في بعض المقاهي الصغيرة، بالإضافة إلى التجول في سوق الملابس والخضار والفواكه والأدوات المنزلية القريب من الفندق.
كان شارع حديبو قد بدأ يلبس حلة الظلام، فالكهرباء لم تكن تنير الشارع بشكل جيد إلا من بعض المحال التي تبيع الأشياء الضرورية للسكان، مثل المعلبات والسجائر وكروت هاتف "يمن موبايل"، وهي الخدمة الوحيدة التي تتوفر في الجزيرة، فسكان الجزيرة وزوارها لا يستطيعون استخدام شبكة "إم تي إن" أو "سبأفون"، فهاتان الشركتان لا تواجد لهما في الجزيرة على الإطلاق، وكان الكثير منا يعرف ذلك فلم يصطحب أحد ما لديه من خطوط غير "يمن موبايل" لاستخدامه في الجزيرة.
قصة الاتصالات من الجزيرة فيها الكثير من الصعوبة، فهناك محلان فقط يمكنك الاتصال منهما دولياً، أما الإنترنت فإن استخدامه في الجزيرة صعب للغاية، والمحلات المكتوب على واجهتها إعلانات تشير إلى وجود خدمة الانترنت لا تلبي طلبك، ويقول محمد سعيد العرقبي، مدير موقع "سقطرى نت" إن هناك صعوبة كبيرة في التواصل مع العالم بسبب ضعف شبكة الإنترنت، حيث لا يتم ذلك إلا عبر الستلايت، وهي خدمة مرتفعة التكاليف وغير متوفرة للجميع.
تبدو الحياة في شارع حديبو الرئيس في غاية التواضع، والشارع يغيب عنه الاهتمام بنظافته، فهو مليء بمخلفات الاستخدام اليومي لمتطلبات الناس، الذين يرمون كل شيء إلى الشارع، شأنهم شأن إخوتهم في كل أنحاء البلاد، ولا تبدو بصمة السلطة المحلية قائمة في هذه القضية، فهذه المخلفات متراكمة منذ أشهر وربما لبضع سنين، حتى اختلط الأمر وصرت لا تفرق إن كان شارعاً رئيساً أم فرعياً، رغم أن معظم فروع المرافق الحكومية تقع فيه، مثل البنوك والجمعيات والمدارس ومكاتب الطيران وغيرها، والماعز يتجول بحرية في الشارع دون حسيب ولا رقيب.
في الشارع العام تبدو الحياة بسيطة ببساطة أهل الجزيرة، تنتشر على ضفتي الشارع (مجازاً) المطاعم والمقاهي الصغيرة، التي تقدم خدمات للناس، وفي بعض الأماكن لا تعرف ما هي المواضيع التي يتحدث بها سكان الجزيرة، لأن أحاديثهم كلها باللغة السقطرية، لكنهم عندما يتحدثون مع الزائر الغريب فإنه يتحدثون باللغة التي يفهمها.
في الليل قضينا وقتاً ممتعاً في أحد المطاعم المعروفة في الجزيرة لتناول العشاء وسط جو بديع، فيما كان العديد من السياح يتواجد في المطعم للغرض نفسه، كما قمنا بزيارة بعض الأسواق القريبة من الفندق، والتي تبيع ما يحتاجه المنزل السقطري من مواد غذائية ومنزلية، وفواكه وخضروات وملابس وعطور وغيرها مما هو ضروري.
في مساء اليوم الثاني وبعد عودتنا من "كهف حُق" كان علينا أن نمر في الشارع لشراء عسل سقطري كان الأخوان حسان أبوعكر، سفير لبنان وعبد الستار الأنصاري، السكرتير الأول في السفارة القطرية، حريصين على شرائه، حيث تم شراء عسل معبأ في علب بلاستيكية وسعره ليس غالياً، فسعر الكيلو، الحلو والمر معاً، يصل إلى خمسة آلاف ريال يمني، يستخدم في علاجات عدة. وفي صباح اليوم الثاني ذهبنا إلى معمل خاص مدعوم من السفارة الفرنسية بصنعاء لاقتناء عسل ينصح الكثير من أبناء سقطرى بالشراء منه لأنه يتم إنتاجه بطريقة علمية وبمواصفات عالية تضمن جودته.
كنا في اليوم التالي من الزيارة على موعد مع مزيد من الإثارة والتشويق، بحسب منظمي الرحلة كان يجب أن نذهب إلى أحد الكهوف المعروفة في جزيرة سقطرى، وهو "كهف حُق" الذي يقع على أعلى قمة في المنطقة، خرجنا من الفندق والأمطار تمنح الجزيرة الجميلة مزيداً من الجمال والروعة، كانت السحب والضباب تغطي قمم الجبال بل وتناطحها، وانطلقنا باتجاه منطقة حق التي يقع فيها الكهف.
في الطريق كانت الطبيعة تفصح عن أسرارها، والحياة التي يعيشها السقطريون تتضح بساطتها، مررنا على مناطق يسيل فيها الماء من الجبال المرتفعة وأشجار النخيل تغطيها، ومنازل تتناثر هنا وهناك، الجميع يسكن على السهل، لا أحد يسكن على قمم الجبال، رغم جمالها، قبل الوصول إلى الكهف مررنا على أماكن جميلة كانت مغرية للتصوير، خاصة تلك القريب من محمية "روش" البحرية، حيث وجدنا أشجار تنبت من الصخر في تناغم عجيب مع الطبيعة.
وصلنا إلى المكان المقرر أن نصعد منه باتجاه الجبل، كان الجميع يتأهب متحمساً لمعرفة الكهف المثير، لكنهم لم يكونوا يعرفون ما ينتظرهم. تمت الاستعدادات للصعود، ووزع المنظمون كشافات إضاءة يتم استخدامها داخل الكهف المظلم، وتزود الصاعدون بالماء، خاصة وأن في أعلى الجبل لا يوجد ما يمكن شراؤه من ماء وبعض المرطبات، وهو أمر قال عنه الشاب الذي جاء مع المجموعة كدليل إنه غير مربح، فالناس الذين يصعدون إلى قمة الجبل لا يشترون، كما أنه يعطي مبرراً آخر يدفع أبناء سقطرى عن استغلال المكان لغرض بيع العصائر والمياه والمرطبات بالقول إن ذلك يلوث الطابع البيئي للجزيرة. وفي هذه الجزئية لديه كامل الحق، فالناس يمكنهم أن يلحقوا الضرر بالبيئة إذا ما سمح لهم بتناول الأطعمة والمشروبات في أعلى الجبل، وكان الشاب نفسه قد بدا غاضباً عندما رأى بعض القناني الفارغة مرمية على الطريق، حتى أنه شكا لقائد المجموعة هذا السلوك الذي اعتبره غير حضاري.
بدا الكهف لكثير من أفراد المجموعة قريباً، مع أننا كنا نخشى ألا يتمكن البعض من الصعود إلى أعلى قمة في الجبل حيث الكهف، خاصة لمن لديه مشاكل في القلب، مع ذلك كان الجميع متحمساً لخوض المغامرة. بدأنا في الصعود في ظل حماس شديد وتسابق من قبل البعض، وحديث ومزاح بين الجميع، كان في الفريق شباباً رائعين أضفوا على الرحلة كثيراً من المرح، فقد كانوا ملح الرحلة وسُكّرَها. ومع مرور الوقت بدأ الإرهاق ينال من الجميع.
لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، مواصلة قضم الجبل باتجاه الكهف بالحماسة نفسها التي بدأناها، لهذا كانت هناك أكثر من "استراحة محارب" في الطريق إلى قمة الجبل، وكنا نغبط السائحين الإيطاليين الذين كانوا قد أنهوا مهمتهم بنجاح وصاروا في "اتجاه معاكس" لنا، فقد كان هؤلاء يرمون لنا التحية ويشجعوننا على مواصلة الرحلة، لأنها تستحق التعب.
بعد ساعتين أو أقل قليلاً من الصعود إلى الأعلى، كنا قد بلغنا قمة الجبل بمجموعات متناثرة، البعض وصل في الموعد والبعض الآخر تأخر قليلاً، والبعض الآخر تأخر أكثر من اللازم، وحده الخبير في شؤون الجزيرة الأستاذ عبد الرحمن فضل الإرياني كان أذكى منا في التعامل مع الوضع، فلم يصعد متحمساً كما فعلنا واستسلمنا في نهاية الجبل، حتى كدنا نصل إلى قناعة بأننا لن نصل قمة الجبل ولن نرى الكهف أبداً. ومع أن الأستاذ عبد الرحمن وصل متأخراً، إلا أنه لم يصل مجهداً كما حدث مع الكثير منا.
في الطريق إلى الجبل، بخاصة الأمتار الأخيرة كنا نمطر دليلنا الشاب بمزيد من أسئلتنا الملحة: "كم بقي من الوقت لنصل إلى الكهف؟". ولأنه يدرك المسألة وصعوبة الرحلة، كان يهون علينا الموضوع بإجابة قصيرة: "خلاص قربنا، باقي عشر دقائق ونصل"، كانت الدقائق العشر التي يعد بها الدليل تطول وتطول، وفجأة كنا نكتشف أننا قد أمضينا ساعة في الصعود إلى الجبل وعشر دقائق الدليل لم تنته، لكن المسافة الباقية كان الدليل النشط يقطعها في أقل من عشر دقائق.
بعد وصولنا إلى قمة الجبل، صرنا وجهاً لوجه مع الكهف المثير. عندما بدأنا بدخوله نسينا تعب الرحلة وصعود الجبل، فقد كان الكهف يثير في الجميع دهشة وإثارة، كانت الصخور النابعة من الأرض داخل الكهف والمسنونة والتي تعطي أشكالاً هندسية عجيبة تدهش الجميع.
"مغارة جعيتا"
لمن رأى "مغارة جعيتا" في لبنان بالقرب من نهر الكلب، فإن "كهف حُق" قريباً منها، مع فوارق عديدة أن كهف سقطرى لا تصله أية وسيلة مواصلات عكس "جعيتا"، والاهتمام بالمغارة في لبنان غير موجود في كهف سقطرى، فيد الإنسان لم تمتد إليه قط، لهذا كان الاستعانة بالمصابيح ضرورياً للتجول في الكهف، الذي كان عميقاً إلى الدخل في مسافة تصل إلى ثلاثة كيلومترات تقريباً.
في كل متر كنا نسير فيه داخل الكهف كانت أشياء جديدة تدهشنا: الصخور المدلاة من الكهف التي شكلها الخالق بطريقة عجيبة بديعة، والصخور التي تنبت من الأرض وتتشكل بطريقة جميلة لا تجدها إلا في هذا الكهف البديع، كما حال "مغارة جعيتا"، وفي نهايته تتدفق مياه عذبة صافية... إلا أن غياب الخدمة داخل الكهف جعلتنا نعود من جديد إلى حيث جئنا، لكن الوزير الإرياني الذي جاء بعدنا واصل مع بعض من رافقه إلى أماكن أبعد.
بعد الخروج من الكهف بدت لنا المسافة بعيدة، كنا نتمنى لو أن هناك وسيلة تقرب المسافة أكثر وتختصر علينا عناء الهبوط، فقد كان الهبوط من الجبل إلى السفح أصعب بكثير من الصعود إلى القمة، خاصة وأن الطريق غير مريح، فالجميع يسير على صخور وأحجار وضعت علاماتها أقدام الصاعدين والهابطين فتحولت إلى طريق غير آمن.
وكان انطباع الكثير من أن الهبوط سيكون أسهل قد نسفته التجربة، إذ أن عملية النزول بدت أصعب بكثير من الصعود، خاصة وأنها جاءت مع شد عضلي جعل البعض يسقط في الطريق قبل أن يواصل، فبدا الطريق طويلاً لدرجة كنا نرى البحر وكأنه في جزيرة عبد الكوري وليس في سقطرى.
لكن لماذا لم يتم تنفيذ مشروع يسهل للناس صعود الجبل لرؤية الكهف ونزوله؟ إن هذا أمر غير مفهوم، البعض لا يزال يعتقد أن إدخال مثل هذه المشاريع يقضي على فكرة الإثارة التي توفرها رحلة الصعود إلى الجبل والعودة من نفس الطريق، ويبرر البعض هذه الخطوة بعدم جدوى إقامة مشروع العربات الجوية، أي "التلفريك"، كما هو حاصل في بعض المناطق اليمنية والعالمية، خاصة مع قلة السياح الذين يصلون إلى الجزيرة، والذين يكون تواجدهم في مناسبات معينة، بالإضافة إلى غياب السياحة الداخلية، لهذا فإن إقامة هذه المشاريع في ظل غياب التدفق السياحي الكبير ستكون غير مربحة، فيما يتخوف البعض من مسؤولي الجزيرة من أن يشكل إقامة مثل هذه المشاريع خطراً على البيئة السقطرية، إذ ستلحق هذه المشاريع استحقاقات أخرى لا تحتاجها بيئة الجزيرة.
بعد ساعات من التعب عدنا إلى محمية روش البحرية لتناول وجبة الغداء، حسب ما كان مخططاً، وسط العشرات من طيور البحر التي كانت تهبط إلى جانبنا دون خوف أو وجل، وكانت تقف على صخور قريبة منا. ثم انقسم أعضاء الفريق ما بين الراغبين في العودة إلى الفندق للراحة وبين من فضل الذهاب إلى البحر للسباحة، وهو ما حدث، حيث قضى من ذهب إلى شواطئ منطقة "عرهر" يوماً جميلاً.
كان ذلك اليوم مرهقاً، استدعى من البعض البقاء في الفندق ما تبقى من اليوم، ثم الخروج إلى شارع حديبو الوحيد للتعرف على حياة الناس البسيطة وشرب الشاي في بعض المقاهي الصغيرة، بالإضافة إلى التجول في سوق الملابس والخضار والفواكه والأدوات المنزلية القريب من الفندق.
كان شارع حديبو قد بدأ يلبس حلة الظلام، فالكهرباء لم تكن تنير الشارع بشكل جيد إلا من بعض المحال التي تبيع الأشياء الضرورية للسكان، مثل المعلبات والسجائر وكروت هاتف "يمن موبايل"، وهي الخدمة الوحيدة التي تتوفر في الجزيرة، فسكان الجزيرة وزوارها لا يستطيعون استخدام شبكة "إم تي إن" أو "سبأفون"، فهاتان الشركتان لا تواجد لهما في الجزيرة على الإطلاق، وكان الكثير منا يعرف ذلك فلم يصطحب أحد ما لديه من خطوط غير "يمن موبايل" لاستخدامه في الجزيرة.
قصة الاتصالات من الجزيرة فيها الكثير من الصعوبة، فهناك محلان فقط يمكنك الاتصال منهما دولياً، أما الإنترنت فإن استخدامه في الجزيرة صعب للغاية، والمحلات المكتوب على واجهتها إعلانات تشير إلى وجود خدمة الانترنت لا تلبي طلبك، ويقول محمد سعيد العرقبي، مدير موقع "سقطرى نت" إن هناك صعوبة كبيرة في التواصل مع العالم بسبب ضعف شبكة الإنترنت، حيث لا يتم ذلك إلا عبر الستلايت، وهي خدمة مرتفعة التكاليف وغير متوفرة للجميع.
تبدو الحياة في شارع حديبو الرئيس في غاية التواضع، والشارع يغيب عنه الاهتمام بنظافته، فهو مليء بمخلفات الاستخدام اليومي لمتطلبات الناس، الذين يرمون كل شيء إلى الشارع، شأنهم شأن إخوتهم في كل أنحاء البلاد، ولا تبدو بصمة السلطة المحلية قائمة في هذه القضية، فهذه المخلفات متراكمة منذ أشهر وربما لبضع سنين، حتى اختلط الأمر وصرت لا تفرق إن كان شارعاً رئيساً أم فرعياً، رغم أن معظم فروع المرافق الحكومية تقع فيه، مثل البنوك والجمعيات والمدارس ومكاتب الطيران وغيرها، والماعز يتجول بحرية في الشارع دون حسيب ولا رقيب.
في الشارع العام تبدو الحياة بسيطة ببساطة أهل الجزيرة، تنتشر على ضفتي الشارع (مجازاً) المطاعم والمقاهي الصغيرة، التي تقدم خدمات للناس، وفي بعض الأماكن لا تعرف ما هي المواضيع التي يتحدث بها سكان الجزيرة، لأن أحاديثهم كلها باللغة السقطرية، لكنهم عندما يتحدثون مع الزائر الغريب فإنه يتحدثون باللغة التي يفهمها.
في الليل قضينا وقتاً ممتعاً في أحد المطاعم المعروفة في الجزيرة لتناول العشاء وسط جو بديع، فيما كان العديد من السياح يتواجد في المطعم للغرض نفسه، كما قمنا بزيارة بعض الأسواق القريبة من الفندق، والتي تبيع ما يحتاجه المنزل السقطري من مواد غذائية ومنزلية، وفواكه وخضروات وملابس وعطور وغيرها مما هو ضروري.
في مساء اليوم الثاني وبعد عودتنا من "كهف حُق" كان علينا أن نمر في الشارع لشراء عسل سقطري كان الأخوان حسان أبوعكر، سفير لبنان وعبد الستار الأنصاري، السكرتير الأول في السفارة القطرية، حريصين على شرائه، حيث تم شراء عسل معبأ في علب بلاستيكية وسعره ليس غالياً، فسعر الكيلو، الحلو والمر معاً، يصل إلى خمسة آلاف ريال يمني، يستخدم في علاجات عدة. وفي صباح اليوم الثاني ذهبنا إلى معمل خاص مدعوم من السفارة الفرنسية بصنعاء لاقتناء عسل ينصح الكثير من أبناء سقطرى بالشراء منه لأنه يتم إنتاجه بطريقة علمية وبمواصفات عالية تضمن جودته.
الموضوع : سقطرى.. قطعة من السماء على ارض منسية...((3)) المصدر : منتديات شمير الكاتب: انيس احمد العاقل
توقيع العضو : انيس احمد العاقل |